من آخر سفراته الطويلة عاد، ودق الجرس ليأتيه صوتها من الداخل: من؟ أنا، قالها وسمع انطلاق الصوصوات الحبيبة وراء الباب: بابا. بابا. بابا، وراحت "الترابيس" تفتح واحداً وراء الآخر، أي خوف يعتريهم وهو بعيد عنهم، أي وحدة وأي استوحاش كيف يطاوعه قلبه للابتعاد عنهم إلى هذا الحد، وارتموا في حضنه ما إن انهمر إلى الداخل، مثلها مثلهما، زوجته والولدان، هي تتعلق بعنقه وهما يحتضنان ساقيه ووجوههم جميعا تتطلع إلى وجهه بفرح، فتعتريه لحظه حزن عميق.
هذه المرة ذهب إلى طرف الأرض الأقصى عند الشرق، وقبلها اتجه جنوباً، وشمالاً وغرباً، صحيح أنها رحلات عمل لكن فيها اختياراً يتركه يتحقق كأنما دون إرادة منه، أنه الفضول الغالب لرؤية أطراف العالم البعيد، وها هو قد رأى الكثير، عبر المحيطات الشاسعة، وسار مع ارتحال الأنهار الطويلة، ورأى الكثير من هشات البشر والحيوان والطير والشجر، في الوديان والسهول وعلى ذرى الجبال وفي كل المواسم، لكن هذا كله صار يتحول كأنما في مشهد من مشاهد الخدع السينمائية، إلى كرة زرقاء صغيرة تغبشها سحب بيضاء، وتتعلق بتوحد موحش أليم في فضاء لا نهائي من الظلمة، صار اتساع العالم يحيله إلى ضيق الفرصة الكونية المتاحة لحياة البشر وسائر الكائنات على الأرض، وصار الطيران الطويل والإبحار البعيد يحيلانه إلى الحقيقة البائسة لهشاشة القشرة الأرضية التي تدب عليها الحياة، وصار تواقاً للسفر الغائب، السفر القريب العميق الذي يمكن أن ينسيه هذا الاستوحاش الكوني كله، سفره في حنايا بلدته، بين أضلع أهله وأصحابه، إنه يبتعد فلا يفتقدهم ويفتقدونه فقط بل يفقدهم أيضا.
أن تحب وأن تكون محبوبا - أليست تلك ذروة جمال الحياة الإنسانية وغايتها الحقة كما استخلصها مرة وإلى الأبد، فلماذا يدير ظهره لياقوتة حقيقية نادرة إلى هذا الحد، ومتاحة ويمضي وراء مخايلات مرآة لم يعد يرى فيها إلا الاستوحاش والحسرة؟ أما آن الأوان للكف؟ إنه يكسب صوراً عابرة ويفقد قلوباً مقيمة، يا الله، هتف بها وهو يحس بتباريح الخسارة، وكان جالسا وقد استقر صغيراه على حجره وراحا يتشبثان بصدره وذقنه الصغيرة ويناديانه: "بابا، يا بابا" اصغرهما لم ينطق بعد غيرها وتلونها إشاراته الصغيرة وطريقة نطقه لها بعشرات المعاني من العتاب إلى الشوق وحتى الرجاء.
يا الله - هتف بها مرة أخرى متنهداً وهو يفكر في احتمالات تغير الأشياء والبشر، فيما إذا كان سيخذله الحنين، حيث لا يجد ما يحن إليه.
يا الله - كررها متنفسا بعمق، وكان يشدد إحاطة ذراعيه بالصغيرين. إنه يجدهما دائما أصغر مما كان يظن.
No comments:
Post a Comment